سورة الروم - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


ولما أقام سبحانه الدليل على البعث وإقامة الوجود بتصريفه الرياح كيف يشاء وأتبعه آية التسلية والتهديد، وكان عذاب المذكورين فيها بالريح أو ما هي سببه أو لها مدخل فيه، أتبع ذلك الإعلام بأنه مختص بذلك سبحانه تنبيهاً على عظيم آية الرياح للخص على تدبرها، مؤكداً لأمر البعث ومصرحاً به، فقال ثانياً الكلام عن مقام العظمة الذي اقتضته النقمة إلى الاسم الأعظم الجامع الذي نظره إلى النعمة أكثر من نظره إلى النقمة: {الله} أي وحده {الذي يرسل} مرة بعد أخرى لأنه المتفرد بالكمال فلا كفوء له: {الرياح} مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة، وفي قراءة الجمهور بالجمع خلافاً لابن كثير وحمزة والكسائي تنبيه على عظيم الصنع في كونه يفعل ما ذكره بأي ريح أراد {فتثير سحاباً} لم يكن له وجود.
ولما أسند الإثارة إلى الرياح، نزع الإسناد إليها في البسط والتقطيع فإنه لم يجعل فيه قوة شيء من ذلك ليعلم أن الكل فعله فقال: {فيبسطه} بعد اجتماعه {في السماء} أي جهة العلو.
ولما كان أمر السحاب في غاية الإعجاب في وجوده بعد أن لم يكن وأشكاله وألوانه وجميع أحواله في اجتماعه وافتراقه وكثافته وما فيه من مطر ورعد وبرق وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الاستفهام وإن كانوا قد عدوها هنا شرطية فقال: {كيف} أي كما {يشاء} أي في ناحية شاء قليلاً تارة كمسيرة ساعة أو يوم، وكثيراً أخرى كمسيرة أيام على أوضاع مختلفة تدلك قطعاً على أنه فعله وحده باختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها.
ولما كان المراد بذلك كونه على هيئة الاتصال، دل عليه بقوله: {ويجعله} أي إذا أراد {كسفاً} أي قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع نزول الماء {فترى} أي بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامٌ وفرج يا من أهلية الرؤية، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه {الودق} أي المطر المتقاطر القريب الواسع {يخرج من خلاله} أي السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال.
ولما كان سبحانه قد سبب عن ذلك سرور عباده لما يرجون من أثره وإن كانوا كثيراً ما يشاهدون تخلف الأثر لعوارض ينتجها سبحانه، قال مسبباً عن ذلك مشيراً بأداة التحقق إلى عظيم فضله وتحقق إنعامه: {فإذا أصاب} أي الله {به من} أي أرض من {يشاء} ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد أصلاً شيء بقوله: {من عباده} أي الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم، وهم جديرون بملازمة شكره، والخضوع لأمره، خاصاً لهم بقدرته واختياره، وبين خفتهم بإسراعهم إلى الاستبشار مع احتمال العاهات، جامعاً رداً على معنى {من} أو على العباد لأن الخفة من الجماعة أفحش فقال: {إذا هم يستبشرون} أي يظهر عليهم البشر، وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين؛ ثم بين طيشهم وعجزهم بقوله: {وإن} أي والحال أنهم {كانوا} في الزمن الماضي كوناً متمكناً في نفوسهم، وبين رب يأسهم من استبشارهم دلالة على سرعة انفعالهم وكثرة تقلبهم بالجار، فقال: {من قبل أن ينزل} أي المطر بأيسر ما يكون عليه سبحانه {عليهم} ثم أكد عظم خفتهم وعدم قدرتهم بقوله: {من قبله} أي الاستبشار سواه من غير تخلل زمان يمكن أن يدعي لهم فيه تسبب في المطر {لمبلسين} أي ساكتين على ما في أنفسهم تحيراً ويأساً وانقطاعاً، فلم يكن لهم على الإتيان بشيء من ذلك حيلة، ولا لمعبوداتهم صلاحية له باستقلال ولا وسيلة.
ولما انكشف بذلك الغطاء، وزاحت الشبه، أعرض سبحانه عنهم على تقدير أن يكون ترى لمن فيه أهلية الرؤية إيذاناً بأنه لا فهم لهم ملتفتاً إلى خلاصة الخلق الصالح للتلقي عنه قائلاً مسبباً عن ذلك: {فانظر} ولما كان المراد تعظيم النعمة، وأن الرزق أكثر من الخلق، عبر بحرف الغاية إشارة إلى تأمل الأقصى بعد تأمل الأدنى فقال: {إلى آثار} ولما لم يكن لذلك سبب سوى سبق رحمته لغضبه قال: {رحمت الله} للجامع لمجامع العظة، وأظهر ولم يضمر تنبيهاً على ما في ذلك من تناهي العظمة في تنوع الزروع بعد سقيا الأرض واهتزازها بالنبات واخضرار الأشجار واختلاف الثمار، وتكون الكل من ذلك الماء.
ولما كان هذا من الخوارق العظيمة، ولكنه قد تكرر حتى صار مألوفاً، نبه على عظمته بأنه أهل لأن يسأل عنه فقال: {كيف يحيي} أي هذا الأثر أو الله مرة بعد أخرى {الأرض} بإخراج ما ذكر منها.
ولما كانت قدرته على تجديد إحيائها دائة- على ما أشار إليه المضارع ودعا إليه مقصود السورة، أشار إلى ذلك أيضاً بترك الجار فقال: {بعد موتها} بانعدام ذلك.
ولما كان هذا دالاً على القدرة على إعادة الموتى ولا بد لأنه مثله سواء، فإن جميع ما لا ينبته الآدميون يتفرق في الأرض بعد كونه هشيماً تذروه الرياح، ويتفتت بحيث يصير تراباً، فإذا نزل عليه الماء عاد كما كان أو أحسن قال: {إن ذلك} أي العظيم الشأن الذي قدر على هذا {لمحيي الموتى} كلها من الحيوانات والنباتات، أي ما زال قادراً على ذلك ثابتاً له هذا الوصف ولا يزال {وهو} مع ذلك {على كل شيء} من ذلك وغيره {قدير} لأن نسبة القدرة منه سبحانه إلى كل ممكن على حد سواء.
ولما كان تكرار مشاهدتهم لمثل هذا الاقتدار لا يفيدهم علماً بالله تعالى، دل على ذلك بقوله، لافتاً الكلام إلى سياق العظمة تنبيهاً على عظيم عفوه سبحانه مع تمام القدرة، مؤكداً له غاية التأكيد، تنبيهاً على أنه ليس من شأن العقلاء عدم الاستفادة بالمواعظ، معبراً بأداة الشك، تنبيهاً على أن إنعامه أكثر من انتقامه، مؤكداً بالقسم لإنكارهم الكفر: {ولئن أرسلنا} بعد وجود هذا الأثر الحسن {ريحاً} عقيماً {فرأوه} أي الأثر، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب {مصفراً} قد ذبل وأخذ في التلف من شدة يبس الريح إما بالحر أو البرد {لظلوا} أي لداموا وعزتنا لها يجددون الكفر أبداً وإن كان ظل معناه: دام نهاراً، وعبر بالماضي موضع المستقبل نحو ليظللن والله تأكيداً لتحقيقه، ولعله عبر بالظلول لأن مدة النوم لا تجديد فيها للكفر، ولذلك أتى فيها بحرف التبعيض حيث قال: {من بعده} أي بعد اصفراره {يكفرون} بيأسهم من روح الله وجحودهم لما أسلف إليهم من النعم بعد ما تكرر من تعرفه سبحانه إليهم بالإحسان، بعد ما التقت حلقتا البطان، وكان وكان فلا هم عند السراء بالرحمة شكروا، ولاعند الضراء بالنقمة صبروا، بل لم يزيدوا هناك على الاستبشار، ولا نقصوا هنا شيئاً من تجديد الكفر والإصرار، فلم يزالوا لعدم استبصارهم على الحالة المذمومة، ولم يسبقوا في إزاله النقم، ولا إنالة النعم، فكانوا أضل من النعم.


ولما كان هذا كله من حالهم في سرعة الحزن والفرح في حالتي الشدة والرخاء وإصرارهم على تجديد الكفر دليلاً على خفة أحلامهم، وسوء تدبرهم، فإنهم لا للآيات المرئية يعون، ولا للمتلوة عليهم يسمعون، سبب عن ذلك التعريف بأن أمرهم ليس لأحد غيره سبحانه وهو قد جعلهم أموات المعاني، فقال ممثلاً لهم بثلاثة أصناف من الناس، وأكده لأنهم ينكرون أن يكون حالهم كذلك والنبي صلى الله عليه وسلم شديد السعي في إسماعهم والجهد في ذلك: {فإنك} أي استدامتهم لكفرهم هذا تارة في الرخاء وتارة في الشدة وقوفاً مع الأثر من غير نظر ما إلى المؤثر وأنت تتلو عليهم آياته، وتنبههم على بدائع بيناته بسبب أنك {لا تسمع الموتى} أي ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم، فلا نظر ولا سمع، أو موتى القلوب، إسماعاً ينفعهم، لأنه مما اختص به سبحانه، وهؤلاء منهم من هم مثل الأموات لأن الله تعالى قد ختم على مشاعرهم {ولا تسمع} أي أنت في قراءة الجماعة غير ابن كثير {الصم} أي الذين لا سمع لهم أصلاً، وذكر ابن كثير الفعل من سمع ورفع الصم على أنه فاعل، فكان التقدير: فإن من مات أو مات قلبه ولا يسمع ولا يسمع الصم {الدعاء} إذا دعوتهم، ثم لما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال: {إذا ولوا} وذكر الفعل ولم يقل: ولت، إشارة إلى قوة التولي لئلا يظن أنه أطلق على المجانبة مثلاً، ولذا بنى من فاعله حالاً هي قوله: {مدبرين}.
ولما بدأ بفاقد حاسة السمع لأنها أنفع من حيث إن الإنسان إنما يفارق غيره من البهائم بالكلام، أتبعها حاسة البصر مشيراً بتقديم الضمير إلى أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في هدايتهم اجتهاد من كأنه يفعله بنفسه تدريباً لغيره في الاقتصاد في الأمور فقال: {وما أنت بهاد العمي} أي بموجد لهم هداية وإن كانوا يسمعون، هذا في قراءة الجماعة غير حمزة، وجعله حمزة فعلاً مضارعاً مسنداً إلى المخاطب من هدى، فالتقدير: وما أنت تجدد هداية العمي {عن ضلالتهم} إذا ضلوا عن الطريق فأبعدوا وإن كان أدنى ضلال- بما أشار إليه التأنيث، وإن أتعبت نفسك في نصيحتهم، فإنهم لا يسلكون السبيل إلا وأيديهم في يدك ومتى غفلت عنهم وأنت لست بقيوم رجعوا إلى ضلالهم، فالمنفي في هذه الجملة في قراءة الجمهور ما تقتضيه الاسمية من دوام الهداية مؤكداً، وقراءة حمزة ما يقتضيه المضارع من التجدد وفي التي قبلها ما تقتضيه الفعليه المضارعة من التجدد ما دام مشروطاً بالإدبار، وفي الأولى تجدد السماع مطلقاً فهي أبلغ ثم التي بعدها، فممثول الصنف الأول من لا يقبل الخير بوجه ما مثل أبي جهل وأبيّ بن خلف، والثاني من قد يقارب مقاربة ما مثل عتبة بن ربيعة حين كان يقول لهم: خلو بين هذا الرجل وبين الناس، فإن أصابوه فهو ما أردتم وإلا فعزه عزكم، والثالث المنافقون، وعبر في الكل بالجمع لأنه أنكأ- والله الموفق.
ولما كان ذلك كناية عن إيغالهم في الكفر، بينه ببيان أن المراد موت القلب وصممه وعماه لا الحقيقي بقوله: {إن} أي ما {تسمع إلا من يؤمن} أي يجدد إيمانه مع الاستمرار مصدقاً {بآياتنا} أي فيه قابلية ذلك دائماً، فهو يذعن للآيات المسموعة، ويعتبر بالآيات المصنوعة، وأشار بالإفراد في الشرط إلى أن لفت الواحد عن رأيه أقرب من لفته وهو مع غيره، وأشار بالجمع في الجزاء إلى أن هذه الطريقة إن سلكت كثر التابع فقال: {فهم} أي فتسبب عن قبولهم لذلك أنهم {مسلمون} أي منقادون للدليل غاية الانقياد غير جامدين مع التقليد.
ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات، تارة في الأجسام، وتارة في القوى، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات، وختم لأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته، فلانت للأدلة عريكته، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم فكرته ورويته، وصل بذلك دليلاً جامعاً بين القدرة على الأعيان والمعاني إبداء وإعادة، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف، فقال مؤكداً إشارة إلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولا وهم ينكرونها، فكأنهم ينكرونه، فإنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر: {الله} أي الجامع لصفات الكمال وحده.
ولما كان تعريف الموصول ظاهراً غير ملبس، عبر به دون اسم الفاعل فقال: {الذي خلقكم} أي من العدم. ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف، وأضعف ما يكون في أوله قال: {من ضعف} أي مطلق- بما أشارت إليه قراءة حمزة وعاصم بخلاف عن حفص بفتح الضاد، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار، ثم ما شاء الله من سن الصبي.
ولما كانت تقوية المعنى الضعيف مثا إحياء الجسد الميت قال: {ثم جعل} عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال: {من بعد} ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول، أظهر ولم يضمر فقال: {ضعف قوة} بكبر العين والأثر من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عاماً، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنين وأربعين عاماً فلو لا تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه مثل إعادة الشيخ شاباً بعد هرمه {ثم جعل من بعد قوة} في شباب تقوى به القلوب، وتحمى له الأنوف، وتشمخ من جرائه النفوس {ضعفاً} رداً لما لكم إلى أصل حالكم.
ولما كان بياض الشعر يكون غالباً من ضعف المزاج قال: {وشيبة} وهي بياض في الشعر ناشئ من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم، وينقص الهمة والعلم، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين، وهو أول سن الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى.
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي، أنتج ذلك كله- ولا بد- التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال: {يخلق ما يشاء} أي من هذا وغيره {وهو العليم} أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو إعدامه {القدير} فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلاً، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح، وعبارة بعد إشارة.
ولما ثبتت قدرته على البعث وغيره، عطف على قوله أول السورة {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} أو على ما تقديره: فيوم يريد موتكم تموتون، لا تستأخرون عن لحظة الأجل ولا تستقدمون، قوله: {ويوم تقوم الساعة} أي القيامة التي هي إعادة الخلائق الذين كانوا بالتدريج في ألوف من السنين لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى في أقل من لمح البصر، ولذا سميت بالساعة إعلاماً بيسرها عليه سبحانه {يقسم المجرمون} أي العريقون في الإجرام جرياً منهم على ديدن الجهل في الجزم بما لم يحيطوا به علماً: {ما} أي إنهم ما {لبثوا} في الدنيا والبرزخ {غير ساعة} أي قدر يسير من ليل أو نهار.
ولما كان هذا أمراً معجباً لأنه كلام كذب بحيث يؤرث أشد الفضيحة والخزي في ذلك الجمع الأعظم مع أنه غير مغنٍ شيئاً، استأنف قوله تنبيهاً على أنه الفاعل له: فلا عجب {كذلك} أي مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها {كانوا} في الدنيا كوناً هو كالجبلة {يؤفكون} أي يصرفون عن الصواب الذي منشأه تحري الصدق والإذعان للحق إلى الباطل الذي منشأه تحري المغالبة بصرفنا لهم، فإنه لا فرق في قدرتنا وعلمنا بين حياة وحياة، ودار ودار، ولعله بنى الفعل للمجهول إشارة إلى سهولة انقيادهم إلى الباطل مع أيّ صارف كان.


ولما وصف الجاهلين، أتبعه صفة العلماء فقال: {وقال الذين} وعبر بقوله: {أوتوا العلم} تنبيهاً على شكر من آتاهموه، وبناه للمجهول إشارة إلى تسهيل أخذه عليهم من الجليل والحقير، وأتبعه ما لا يشرق أنواره ويبرز ثماره غيره، فقال: {والإيمان} إشارة إلى تفكرهم في جميع الآيات الواضحة والغامضة مقسمين كما أقسم أولئك محققين مقالهم مواجهين للمجرمين تبكيتاً وتوبيخاً مؤكدين ما أنكر أولئك: {لقد لبثتم في كتاب الله} أي في إخبار قضاء الذي له جميع الكمال الذي كتبه في كتابه الذي كان يخبر به الدنيا {إلى يوم البعث} كما قال تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون: 100] وأما تعيين مدة اللبث فأخفاه عن عباده، ولما أعلم القرآن أن غاية البرزخ البعث، وصدق في إخباره، سببوا عن ذلك قوله: {فهذا} أي فتسبب ما كنا نقوله وتكذبوننا فيه، نقول لكم الآن حيث لا تقدرون على تكذيب: هذا {يوم البعث} أي الذي آمنا به وكنتم تنكرونه، قد كان طبق ما كنا نقوله لكم، فقد تبين بطلان قولكم، وكنتم تدعون الخلاص فيه بأنواع من التكاذيب قصداً للمغالبة، فما كنتم صانعين عند حضوره فاصنعوه الآن، تنبيهاً لهم على أنه لا فائدة في تحرير مقدار اللبث في الدنيا ولا في البرزخ، وإنما الفائدة في التصديق بما أخبر به الكتاب حيث كان التصديق نافعاً. ولما كان التقدير: قد أتى كما كنا به عالمين، فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله: {ولكنكم كنتم} أي كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له {لا تعلمون} أي ليس لكم علم أصلاً، لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه، والتوصل إليه بأسبابه، فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك اليوم.
ولما كان قوله تعالى: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [النساء: 173] في أشكالها من الآيات دالاً على أن هذه الدنيا دار العمل، وأن دار الآخرة دار الجزاء، وأن البرزخ هو حائل بينهما، فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، سبب عن ذلك قوله: {فيومئذ} أي إذ تقوم الساعة، وتقع هذه المقاولة {لا ينفع} أي نفعاً ما {الذين ظلموا} أي وضعوا الأمور في غير مواضعها {معذرتهم} وهي ما تثبت عذرهم، وهو إيساغ الحلية في وجه يزيل ما ظهر من التقصير لأنهم لا عذر لهم وإن بالغوا في إثباته، والعبارة شديدة جداً من حيث كانت تعطي أن من وقع منه ظلم ما يوماً ما كان هذا حاله، وهي تدل على أنه تكون منهم معاذير، وترقق كثير، وتذلل كبير، فلا يقبل منه شيء- هذا على قراءة الجماعة بتأنيث الفعل وهي أبلغ من قراءة الكوفيين بتذكيره بتأويل العذر، لأنه إذا لم ينفع الاعتذار الكثير لم ينفع القليل الذي دل عليه المجرد ولا عكس، ويمكن أن يكون قراءة الجمهور متوجهة للكفرة وقراءة الكوفيين للعصاة من المؤمنين، فإن منهم من ينفعه الاعتذار فيعفى عنه، ويشهد لهذا ما ورد في آخر أهل النار خروجاً منها أنه يسأل في صرف وجهه عنها ويعاهد ربه سبحانه أنه لا يسأله غير ذلك، فإذا صرفه عن ذلك رأى شجرة عظيمة فيسأل أن يقدمه إلى ظلها فيقول الله: ألست أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسال؟ فيقول: بلى! يارب! ولكن لا أكون أشقى خلقك الحديث، وفيه «وربه يعذره» فهذا قد قبل عذره في الجملة، ولا يطلب منه أن يزيل العتب لأن ذلك لا يمكن إلا بالعمل، وقد فات محله، فأتت المغفرة من وراء ذلك كله.
ولما كان العتاب من سنة الأحباب قال: {ولا هم} أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها {يستعتبون} أي يطلب منهم ظاهراً أوباطناً بتلويح أو تصريح أن يزيلوا ما وقعوا فيه مما يوجب العتب، وهو الموجدة عن تقصير يقع فيه المعتوب، لأن ذلك لا يكون إلا بالطاعة وقد فات محلها بكشف الغطاء لفوات الدار التي تنفع فيها الطاعات لكونها إيماناً بالغيب، والعبارة تدل على أن المؤمنين يعاتبون عتاباً يلذذهم.
ولما أبانت هذه السورة طرق الإيمان أيّ بيان، وألقت على وجوه أهل الطغيان غاية الخزي والهوان، وكان التقدير: لقد أتينا في هذه السورة خاصة بعد عموم ما في سائر القرآن بكل حجة لا تقوم لها الأمثال، ولم نبق لأحد عذراً ولا شيئاً من إشكال، لكونها ليس لها في وضوحها مثال، عطف عليه قوله صارفاً الكلام إلى مقام العظمة تقبيحاً لمخالفتهم لما يأتي من قبله وترهيباً من الأخذ مؤكداً لأنهم ينكرون أن يكون في القرآن دلالة، ومن أقر منهم مع الكفر فكفره قائم مقام إنكاره: {ولقد ضربنا}.
ولما كانت العناية فيها بالناس أكثر، قال: {للناس} فقدمهم في الذكر {في هذا القرآن} أي عامة هذه السورة وغيرها {من كل مثل} أي معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال، في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال.
ولما كان المختوم على مشاعرهم منهم لا يؤمنون بشيء. وكان ذلك من أدل دليل على علمه تعالى وقدرته، قال مقسماً تكذيباً لقولهم في الاقتراحات خاصاً من أهل العلم والإيمان رأسهم، دلالة على أن التصرف في القلوب من العظم بمكانة تجل عن الوصف، معبراً بالشرط إعلاماً بأنه سبحانه لا يجب عليه شيء، عاطفاً على نحو: فلم ينفعهم شيء من ذلك: {ولئن جئتهم} أي الناس عامة {بآية} أي دلالة واضحة على صدقك معجزة، غير ما جئتهم به مما اقترحوه ووعدوا الإيمان به مرئية كانت أو مسموعة {ليقولن الذين كفروا} أي حكمنا بكفرهم غلظة وجفاء، ودل على فرط عنادهم بقوله: {إن} أي ما ولما كان التخصيص بالغلظة أشد على النفس، ضم إليه أتباعه تسلية وبياناً لعظيم شقاقهم فقال: {أنتم} أي أيها الآتي بالآية وأتباعه {إلا مبطلون} أي من أهل العرافة في الباطل بالإتيان بما لا حقيقة له في صورة ما له حقيقة، وأما الذين آمنوا فيقولون: نحن بهذه الآية مؤمنون.
ولما كان من أعجب العجب أن من يدعي العقل يصر على التكذيب بالحق، ولا يصغي لدليل، ولا يهتدي لسبيل، قال مستأنفاً في جواب من سأله: هل يكون مثل هذا الطبع؟ ومرغباً في العلم: {كذلك} أي مثل هذا الطبع العظيم جداً، ولما كان كون الشيء الواحد لناس هداية ولناس ضلالة جامعاً إلى العظمة تمام العلم والحكمة، صرف الخطاب عنها إلى الاسم الأعظم الجامع فقال: {يطبع الله} أي الذي لا كفوء له، فمهما أراد كان، عادة مستمرة، ونبه على كثرة المطبوع عليهم بجمع الكثرة فقال: {على قلوب الذين لا يعلمون} أي لا يجددون- أي لعدم القابلية- العلم بأن لا يطلبوا علم ما يجهلونه مما حققه هذا الكتاب من علوم الدنيا والآخرة رضىً منهم بما عندهم من جهالات سموها دلالات، وضلالات ظنوها هدايات وكمالات.
ولما كان هذا مذكراً بعظيم قدرته بعد الإياس من إيمانهم، سبب عنه قوله: {فاصبر} أي على إنذارهم مع هذا الجفاء والرد بالباطل والأذى، فإن الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا.
ولما كان قد تقدم إليه بأنه لا بد أن يظهر أمره على كل أمر، علله بقوله مؤكداً لأن إنفاذ مثل ذلك في محل الإنكار لعظم المخالفين وكثرتهم مظهراً غير مضمر لئلا يظن التقييد بحيثية الطبع: {إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله في كل ما وعدك به الذي منه نصرك وإظهار دينك على الدين كله ونصر من قارب أتباعك في التمسك بكتاب من كتب الله وإن كان قد نسخ على من لا كتاب له {حق} أي ثابت جداً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان، وتأتي به مطايا الحدثان.
ولما كان التقدير: فلا تعجل، عطف عليه قوله: {ولا يستخفنك} أي يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره أو بتفتيرك عن التبليغ، بل كن بعيداً منهم بالغلظة والجفاء والصدع بمر الحق من غير محاباة ما، بعداً لا يطمعون معه أن يحتالوا في خفتك في ذلك بنوع احتيال، وقراءة {يستحقنك} من الحق معناها: أي لا يطلب منك الحق الذي هوالفصل العدل بينك وبينهم أي لا تطلبه أنت، فهو مثل: لا أرينك ههنا تنهى نفسك وأنت تريد نهيه عن الكون بحيث تراه، والنهي في قراءة الجماعة بالثقيلة أشد منه في رواية رويس عن يعقوب بالخفيفة، فقراءة الجماعة مصوبة إلى أصل الدين، أي لا تفعل معهم فعلاً يطمعهم في أن تميل إليهم فيه، وقراءة رويس إلى نحو الأموال فإنه كان يتألفهم بالإيثار بها، ولا شك أنه إذا آثرهم على أكابر المسلمين أطمعهم ذلك في أن يطلبوا أن يميل معهم، وما أفاد هذا إلا تحويل النهي، ولو قيل: لا تخفن معهم، لم يفد ذلك، ولا يقال عكس هذا من أن النهي في الثقيلة أخف لأنه نهي عن الفعل المؤكد فيبقى أصل الفعل.
وكذا ما صحبه تأكيد خفيف، وفي الخفيفة غير المؤكد تأكيداً خفيفاً فلا يبقى غير أصل الفعل فهو أبلغ، لأن النون لم تدخل إلا بعد دخول الناهي فلم تفد إلا قوة النهي لا قوة المنهي عنه- والله أعلم. {الذين لا يوقنون} أي أذى الذين لا يصدقون بوعودنا تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون فأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون بنصر الله لأوليائه المؤمنين ولمن قاربهم في التمسك بكتاب أصله صحيح، فهم يبالغون في العداوة والتكذيب حتى أنهم ليخاطرون في وعد الله بنصر الروم على فارس، كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أن ذلك لا يكون، فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهار عن قريب علموا كذبهم عياناً، وعلموا- إن كان لهم علم- أن الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهو صاغرون، ويحشرون وهو داخرون، {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227]، فقد انعطف آخرها على أولها عطف الحبيب على الحبيب، واتصل به اتصال القريب بالقريب، والتحم التحام النسيب بالنسيب.

1 | 2 | 3 | 4 | 5